مصطفى سعيد
سَكتَ, أخذ يُحدق, تَلفظ شهيقاً, أسره
في صدره..
تُرى.. من الذي رمى من جرف عينيه, نظرته الأخيرة..
خانتني العين, والزجاجة السميكة, أنقذني, ذاك الشهيقُ,
رائحتك, رائحة ولدي, رائحة, المُصطفى.. تسألني عن حالي... آكل من الغسلين, ولا
أقوى على غسل اليدين وظهر القدمين.. أين عدالة السماء, لم يرحمنا, من في الأرض,
ولا آن أواننا, عند رب السماء..
ماتت فريدة, مات ولدي, المُصطفى, مات ولدي, حميد, مات
أنيسي رشيد, حتى صاحب الرأس الكبير, مات, ألا آن للذل أن يموت.. - بافيه خالوه..
- يا وجع قلبي..
- كم عُمرك البركة..
- في الهوية, ثمانية وثمانون وخزة, في الحقيقة طفت
التسعين بكثير..
- ما نصيحتك, لتائهين مثلي..
- كافحوا..
- وعدتني, سابقاً, بسرد تاريخ نضالكم, ضد المستعمر..
- سأحتاج لشهورٍ يا ولدي, لأحكي نصف ما يطفح من القلب..
- ماذا ستحكي لي ..
نظر لحائط الغرفة المتشقق, كانت صورة لولده الشهيد,
تتوسطه, ببرواظٍ عتيقٍ متواضع, أشار بإصبعه عليها, كانت يده جافة كقطعة حطب, كأنها
عظامٌ مغطاة بالعروق, التغضنات في وجهه كأثر جروحٍ شُفيت, ولم تُشفى من آثارها,
وضع وجهه بين يديه, عندما شعر بالاحتكاك الخشن- بين الوجه واليدين, أرجعهما لتمكثا
على الوسادة التي غطت أحضانه, رغم أني سمعت الحكاية منه أكثر من مرة, لكني أحببت
أن أدّعي بعدم سماعها, وبدأ بحكاية ابنه الشهيد..
المُصطفى, كان طويل القامة, نحيلٌ, عروقه نافرة فوق
ساعديه, همته لو ثارت, لاقتلع الشجرة التي تربض قرب الباب, حتى حصاننا, كان يشتكي من
طول قدميه, كان موعد مجيئه قريب، الأهازيج تسبقه في برحة دارنا, انبساطاً بقرب زواجه, في ذلك اليوم
البارد, أذكر, كنت أحتسي الشاي مع نعسو, عندما صببت الشاي الدافئ في القدح البارد,
تصدع, وانكب الشاي, تمتمت في سري "سترك الله" أحسست بانقباضٍ ينهش داخلي, علمت
أنه في نفس اليوم, كان المُصطفى عائداً من ريف دمشق, بعد غيابٍ طويل, بين الدبابات
وخنادق الجبهات, عاصر حرب تشرين التحريرية, قاتل, ولم بُقتل, بعد النصر والفرج حصل
على إجازة, كان خاطباً بفتاه كردية دمشقية, قصد درب عفرين ليأخذنا معه للإتفاق على
موعد الزواج, حينما يُنهي خدمته, لكن القدر كان له بالمرصاد, لم يصل العريس إلى القرية, وقع حادثٌ أليم
على مفرق ( اعزاز) بينما المُصطفى العريس يتلفظ بأنفاسه الأخيرة, الصدفة التي لا
تُصدق أن ابني حميد, كان قادماً من حلب متجهاً للقرية, للأمر ذاته, عندما وجد
الحادث على الطريق, تبرع بنخوته النادرة هذه الأيام في إسعاف الجرحى, عندما كشف
الغطاء عن الجثة المتوفية, ردد للناس,
أعرف هذا الرجل, لا أذكر أين رأيته, عندما مسح الدم
والطين, كأن السماء أرعدت, عرف أنه شقيقه المُصطفى الذي لم يره منذ مدة, قدم حميد
للقرية, حاملاً نعش العريس الشهيد..
***
أحداث القصة حقيقية, ليست مستوحاة من فيلم هندي, ولا من نسج
خيال الراوي, كان الناس يتناقلون في القرية أن قبر الشهيد المُصطفى ينبعث منه نورٌ
في ليالي الشتاء, شخصياً لم أرَ ذلك, ولازال كل رجل وامرأة من قرية ( دملي
)-دومبلي- تلوك أفواههم تفاصيل الحكاية..
حدثت شتاء عام 1976, بعدها بأيام وُلدت , وتم تسميتي على
اسمه..
حميد, مات بسكتة قلبية, شقيق المُصطفى, ورد ذكره في
روايتي ( أكراد, أسياد بلا جياد)
فجر الدمام - 1- 08- 2007
بعد رحيل ( بافيه خالوه بخسمة أيام )
ملاحظة: تم استدعاء والدي للتحقيق في فرع السياسية من
أجل عبارة ( حتى صاحب الرأس الكبير مات ألا آن للذل أن يموت) كانوا يعرفون أنني
أقصد المقبور حافظ الأسد
|